الخارج في الفقه – أحكام العقد – المسألة 13 – كلام السيد – اختلاف كلام الإمام والسيد
الجلسة الأولى
أحكام العقد – المسألة 13 – كلام السيد – اختلاف كلام الإمام والسيد
التاريخ: 8/7/1444 هـ
العلماء، حراس الفكر والأخلاق في المجتمع
بما أن هذه الجلسة هي الأولى في مناقشتنا، فكما جرت العادة، ومن باب التيمن والتبرك، سنبدأ بكلمات نورانية من المعصومين (ع)، لتكون أقوالهم (ع) منارة تهدينا في طريقنا. سنقرأ حديثًا من الإمام الصادق (ع) ونبدأ مناقشتنا إن شاء الله.
قال الإمام الصادق (ع): «عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا مُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يَلِي إِبْلِيسَ وَعَفَارِيتَهُ، يَمْنَعُونَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا وَعَنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَشِيعَتُهُ». يقول الإمام الصادق (ع): علماء الشيعة هم حراس هذا المذهب، علماء الشيعة والعارفون به هم حماة الحدود الفكرية والعقائدية لأتباعنا، وهم من يحافظون على عقائد المجتمع وإيمانه وأخلاقه. فأين تقع هذه الحدود؟ ومن هم الذين يواجهون العلماء والمفكرين؟ يقول (ع): في الجهة المقابلة يقف إبليس وجميع أعوانه من الشياطين والأشرار الذين يُعدّون أذنابًا لإبليس. كأننا نقارن حدود دولة بدولة أخرى متخاصمة، فمن هذه الجهة يقف العلماء والفقهاء والعارفون الشيعيون على الحدود، وفي الجهة المقابلة يقف إبليس وجنوده. والعفاريت جمع عفریت، وهو يعني الشيطان أو الكائن الشرير، وقد يُطلق في بعض العبارات على الجن الشرير أو أي كائن شرير. هؤلاء جميعًا يُعدّون جنود إبليس.
في حدود الدول المتخاصمة، هناك دائمًا صراعات واشتباكات. لذا يجب على العلماء والفقهاء أن يكونوا في حالة يقظة دائمة، بعيون مفتوحة وآذان صاغية وحواس متيقظة. وبالتالي، فإن أهم مسؤولية العالم الديني هي الحراسة الدائمة والمرابطة الليلية والنهارية لحماية عقائد المجتمع وأخلاقه ومعتقداته وأعماله. «عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا مُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يَلِي إِبْلِيسَ وَعَفَارِيتَهُ»، أي الحدود التي يقف فيها إبليس وأذنابه وجنوده، حيث يخططون دائمًا للهجوم المفاجئ. إبليس والشياطين غالبًا ما يشنون هجمات مفاجئة وهجمات خفية. لذا فإن المرابطة في هذه الحدود لمنع أو الحيلولة دون هجمات إبليس وجنوده هي مسؤولية عظيمة جدًا.
«يَمْنَعُونَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا»، فمهمة العلماء وكبار الشيعة هي منع خروج إبليس وأذنابه على ضعفاء أتباعنا. من الطبيعي أن هجوم العدو من الحدود الفكرية يؤثر في المقام الأول على الذين يعانون من ضعف فكري، أي أولئك الذين تكون معتقداتهم ضعيفة ومعلوماتهم قليلة. وهذا ما نراه اليوم بوضوح، حيث تُشن هجمات شاملة على معتقدات الناس الدينية في الفضاء الافتراضي وغيره، وتنتشر أنواع الشبهات المختلفة. الشبهة تختلف عن السؤال؛ فالسؤال أو الاستفسار عن مسألة معينة يجب أن يُجاب عنه ولا إشكال في ذلك. أما الشبهة فتعني تقديم أمر باطل بثوب الحق. أحيانًا تُستخدم كلمة “شبهة” بمعنى سؤال أو استفسار، لكن الشبهة بالمعنى الدقيق تعني تقديم أمر باطل وغير صحيح بمظهر الحق والجمال، بحيث يقول الجميع إنه ليس سيئًا، بل هو أمر يميل إليه الناس. وهذا ما يحدث الآن، حيث يمتلئ الفضاء الافتراضي بالشبهات التي تتناول جميع جوانب الدين وأبعاده. هذه الشبهات تؤثر في المقام الأول على الضعفاء، والعلماء والعارفون الشيعيون هم الحراس الذين يمنعون إبليس وجنوده من الهجوم على الضعفاء. «وَعَنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَشِيعَتُهُ»، فالعلماء يمنعون إبليس وأتباعه من السيطرة على ضعفاء الشيعة.
إن المهمة الأساسية لعلماء الدين، وهي مسؤولية ثقيلة جدًا تقع على عاتقهم، هي حراسة الحدود العقائدية والفكرية والأخلاقية للمجتمع الديني. فإلى أي مدى نولي هذه المسؤولية اهتمامًا؟ وإلى أي مدى نتحمل هذه المسؤولية في ظل هذا الفضاء المليء بالمشكلات والتحديات التي تحيط بالجميع؟ وكم هي أهمية هذه المسؤولية بالنسبة لنا؟ وكم أعددنا أنفسنا لهذه المرابطة؟ بمجرد أن اخترنا طريق المرابطة، فهذا يعني أننا قبلنا أن نكون حراسًا، وبالتالي يجب أن نلتزم بمتطلبات هذه المسؤولية: اليقظة والمراقبة الدائمة. لا يمكننا أن نكون غافلين أو غير مبالين بما يحدث على حدود هذا النطاق العقائدي والأخلاقي.
المرابطة متعددة الأوجه
أود أن أشير أيضًا إلى أن المرابطة على العقائد والأخلاق ومعتقدات أتباع أهل البيت (ع) لا تقتصر على مواجهة من يثيرون الشبهات أو ينكرون بشكل صريح. هذه المرابطة متعددة الأوجه، كأننا في أبراج المراقبة المخصصة للحراس، والتي يجب أن تراقب جميع الجوانب والجهات. فالهجوم لا يأتي من جهة واحدة فقط، وإنكار الأصل أو المعاد أو الإمامة ليس هو السهام الوحيدة التي تُطلق نحو المذهب. بل إن جزءًا من السهام والنبال التي تُطلق نحو المذهب ناتج عن سوء الفهم والتفسيرات الخاطئة. أولئك الذين يغالون، أو يقولون أحيانًا كلامًا يبدو في ظاهره دفاعًا ولكنه في الحقيقة هجوم، هؤلاء أيضًا يحتاجون إلى مراقبة. بمعنى أننا يجب أن نكون حذرين باستمرار من أن تُطلق السهام نحو المذهب من عدة جهات: من جهة المنكرين والمعاندين، ومن جهة المحبين الجهلة. وهذه المهمة ليست بالهينة، بل ربما تكون الثانية أصعب بكثير من الأولى.
ضرورة الاستعداد للمرابطة الفكرية والأخلاقية
المرابطة تحتاج إلى تجهيز. فلا يمكننا أن نكون مراقبين ما لم نكن مجهزين. لا يمكن أن نكون حراسًا بالكسل أو الخمول، بل إن ذلك يتطلب جهدًا واستعدادًا وسهرًا ليليًا ونهاريًا لمواجهة هذه الهجمات. يجب أن نحرص على ألا نغرق في حياتنا الشخصية لدرجة أن ننسى هذه المسؤولية. يجب أن لا نهتم فقط بتسيير أمورنا الشخصية دون تخصيص وقت لهذه المسؤولية. إذا أردنا أن نكون حراسًا جيدين، ومرابطين مورد تأييد أهل البيت (ع)، يجب أن نزيد من قدراتنا، وأن نجهز أنفسنا، وأن نسعى لرفع مستوى علمنا ومعرفتنا. ومن الناحية العملية والأخلاقية، يجب أن نكون أشخاصًا مهذبين. كلما زاد علمنا وتهذيبنا، زادت بصيرتنا لمواجهة إبليس وأذنابه، واكتسبنا القوة للتصدي لهم. ومنع هجوم إبليس وجنوده وسيطرتهم على ضعفاء الشيعة يعتمد فقط على قوتنا العلمية والعملية.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يمنحنا هذه القدرة والاستعداد لنتمكن، ولو بقدر ضئيل، من العمل بهذا القول النوراني للإمام الصادق (ع). حتى إذا سُئلنا غدًا: “كم تحملتم من هذه المسؤولية كعلماء دين وروحانيين؟”، «عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا مُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يَلِي إِبْلِيسَ وَعَفَارِيتَهُ»، نستطيع أن نقدم جوابًا مقبولًا، ولو جزئيًا، في محضر الله تبارك وتعالى، والنبي الأكرم (ص)، وأهل البيت (ع). نسأل الله أن يوفقنا لهذا، وإذا بذلنا الجهد، سيزيد الله من توفيقه. ومن الأئمة (ع) أنفسهم يجب أن نستمد العون ليجعلونا أكثر إلمامًا بهذه المسؤولية ويزيد من استعدادنا.
المسألة 13
تناولنا في مناقشتنا المسألة الثالثة عشرة من أحكام العقد في كتاب “تحرير الوسيلة”.
المسألة 13: «إذا اختلف الاسم مع الوصف أو اختلفا أو أحدهما مع الإشارة يتبع العقد لما هو المقصود ويلغى ما وقع غلطًا وخطأً». يقول: إذا كان هناك اختلاف بين الاسم والوصف، أو بين الاسم أو الوصف والإشارة، ففي هذه الحالات يكون المعيار هو القصد، والعقد يتبع المقصود، وما وقع خطأً أو غلطًا يُلغى.
هذه المسألة تأتي في أعقاب المسألة الثانية عشرة، وقد ذكر الإمام (ره) أربعة فروع لهذه المسألة سنتناولها لاحقًا. في المسألة 12، شُرط لصحة العقد أن يكون الزوجان معيَّنين، بحيث يتميزان عن غيرهما. صدر المسألة 12 كان: «يشترط في صحة العقد تعيين الزوجين على وجه يمتازان عن غيرهما». شرط صحة العقد هو أن يُعيَّن الزوج والزوجة بطريقة تميزهما عن غيرهما. فكيف يتحقق هذا التمييز؟ قالوا: «بالاسم أو الإشارة أو الوصف لذلك». هذا التمييز أو التعيين يمكن أن يكون بالاسم (مثل ذكر اسميهما)، أو بالإشارة (مثل قول “زوجتك هذه”)، أو بالوصف (مثل “زوجتك ابنتي الكبرى أو الصغرى”). لذا، فإن الاسم أو الوصف أو الإشارة يمكن أن تحدد الزوج والزوجة بحيث يكون العقد صحيحًا. وقد ناقشنا هذا بالتفصيل في العام الماضي.
المسألة الثالثة عشرة التي نبدأها في هذه الجلسة تناقش ماذا نفعل إذا كان هناك اختلاف بين الاسم والوصف والإشارة. على سبيل المثال، يقول: «زوجتك الكبرى من بناتي فاطمة»، وهو الآن يقرأ صيغة النكاح لابنة معينة، لكن ليس هناك إشارة، بل اسم ووصف فقط، وهما متعارضان. أي أن الفتاة التي اسمها فاطمة ليست الابنة الكبرى، بل الابنة الكبرى اسمها خديجة، مثلًا. فإذا حدث هذا الاختلاف، ماذا نفعل؟ أو أن الاسم والوصف متفقان لكن الإشارة مختلفة، فيقول: «زوجتك الكبرى من بناتي فاطمة هذه»، لكن الشخصية التي أُشير إليها ليست الابنة الكبرى ولا اسمها فاطمة. فماذا نفعل هنا؟ هذه مسألة أثيرت للنقاش. إذا حدث هذا الاختلاف بين الاسم أو الوصف أو الإشارة، والتي تُستخدم في الواقع لتحديد الزوج والزوجة، فماذا يجب أن نفعل؟
الإمام (ره) وضع معيارًا تبعًا لبعض الأصحاب، منهم المرحوم السيد في “العروة”، وقالوا إن المعيار في هذه الحالات هو القصد، والعقود تابعة للقصود. فما تعلق به القصد يُعتبر المعيار، والعقد صحيح، «ويلغى ما وقع غلطًا وخطأً»، أي أن ما ذُكر خطأً أو غلطًا يُلغى.
كلام السيد
هذه المسألة لها أربعة فروع سنتناولها إن شاء الله. الإمام هنا ذكر أربعة فروع، بينما المرحوم السيد في “العروة” ذكر ثلاثة فروع فقط. السيد في المسألة 18 من “العروة” تناول هذه المسألة وقال: «إذا اختلف الاسم والوصف أو أحدهما مع الإشارة، أُخذ بما هو المقصود وأُلغي ما وقع غلطًا». ثم ذكر ثلاثة فروع.
اختلاف كلام الإمام والسيد
الإمام (ره) علق على عبارة المرحوم السيد بتعلیقة تمثل في الحقيقة الفرع الرابع الذي لم يذكره السيد، وأشار إليه الإمام هنا. تعليقة الإمام هي: «لكن إذا كان المقصود العقد على الكبرى فتخيل أن المرأة الحاضرة هي الكبرى»، فقال: «زوجتك هذه وهي الكبرى»، فإن الصحة بالنسبة إلى الحاضرة لا تخلو من وجه. يمكن أن نقول إن هذا صحيح أيضًا، «لكن لا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق». لكن الاحتياط يقتضي تجديد العقد أو إجراء الطلاق ثم إعادة العقد.
المرحوم السيد لم يتناول هذه الحالة، لذا أضاف الإمام هذه الحالة في تعليقته. أما الفروع الثلاثة الأخرى فقد أفتى بها الإمام والسيد بوضوح، بأننا ننظر إلى ما تعلق به القصد، فهو الصحيح ويتم، وما قيل خطأً أو غلطًا يُلغى.
هذا عرض عام لما ورد في “تحرير الوسيلة” و”العروة”. معيار الإمام والسيد واحد، وهو أن العقد يتبع القصد. لكن هناك اختلاف في الفروع التي وردت في “تحرير الوسيلة” و”العروة”. وماذا يعني أن العقد تابع للقصد؟ هل هناك دليل آخر هنا أم لا؟ المرحوم العلامة لديه عبارة تشير إلى أن المعيار شيء آخر. هذه المسألة كانت مطروحة بين المتقدمين أيضًا وليست جديدة. إن شاء الله، إذا سمح الوقت، سأقرأ عبارات بعض الأعلام مثل الشيخ الطوسي. الشيخ الطوسي في “المبسوط” تناول هذا وذكر عدة فروع هنا. لكن ما هو الدليل؟ إن شاء الله سنذكر الدليلين، أحدهما في كلام الإمام في “تحرير الوسيلة”، والآخر في كلام آخرين مثل المرحوم العلامة، ونقيّم أيهما صحيح وما هو المعيار.